هل بات الشتات يحمي اليهود اكثر من "دولة اليهود"؟

{title}
أخبار الأردن -

  أمير مخول
 

منذ السابع من اكتوبر يكثر الحديث اسرائيليا عن موجة من الهجرة الى الخارج، وحصريا الهجرة المستدامة التي تبدو ثابتة ومعظمها من جيل الشباب المتقدم. من مميزات هذه الهجرة واستدامتها هو اغلاق المصالح الاقتصادية ونقلها الى الخارج في حال امكن ذلك، وهذا دليل لظاهرة نقل الكثيرين الى مراكز حياتهم الى بلدان اخرى. بتقديري كما ان واقع ان ملايين الاسرائيليين يملكون جوازات سفر اجنبية اضافة الى الاسرائيلي فهي تجعل الانتقال اكثر منالية.


من شأن الجنسية المزدوجة ان تضلل بعض الشيء بصدد المعطيات، اذ من الصعوبة بمكان تحديد الغاية من مغادرة البلاد هل هي هجرة دائمة ام اهجرة مستدامة ام مغادرة مؤقتة. بينما يتناول الاعلام بشكل تقديري معطيات تقول بنحو نصف مليون اسرائيلي قد غادروا البلاد في العام الاخير بشكل مستدام. كما ان اخضاع اسرائيل للمساءلة دوليا وقضائيا يجعلها في مصاف الدول المنبوذة والخاضعة لفرض العقوقبات والمقاطعة التي تطال ايضا مؤسساتها المدنية الثقافية والبحثية والاكاديمية والمالية التي جيّرت منظوماتها في خدمة حرب الابادة والملاحقات السياسية العنصرية، وانعكاس ذلك على التعاون وعلى الاستثمارات الاجنبية. كما ان استدامة امد الحرب على غزة واحتمالية اتساع نطاقها يلقي بأثره البالغ على الاسواق العالمية المضطربة بدورها ويؤدي االى تهاوي اسواق المال العالمية ايضا، مما يضاعف الازمة المالية والاقتصادية الاسرائيلية.


وفقا لدائرة الاحصاء المركزية في تقريرها لشهر اغسطس الجاري فقد شهد النصف الثاني العام 2023 اي بعد السابع من اكتوبر تراجعا بنسبة 20% من التوجهات لفتح ملفات ضريبية لمصالح اقتصادية جديدة، يضاف الى اغلاق مصالح الاسرائيليين الذي يهاجرون للخارج. بيد ان الزيادة في معدل إغلاق ملفات المصالح الاقتصادية هي الأعلى في صناعات التكنولوجيا الفائقة (12٪) - وهو استمرار للمنحى الذي بدأ حتى قبل الحرب وتسارع خلالها. يضاف اليه ظاهرة هجرة الاطباء المقدرة بالمئات في العام الاخير والناتجة عن الشعور ايضا بفقدان الرابط والعقد الاجتماعي وعن الشعور بانهم ضمن القطاعات "غير المرغوب بها".


الشعور العام اسرائيليا ان الحرب على غزة متواصلة ولن تتوقف في المدى المنظور، وهو متوافق مع المخططات الحكومية السياسية والعسكرية القائمة. بل ان اتساع نطاق الحرب نحو حرب اقليمية طويلة الامد ومتعددة الجبهات بات امرا واقعا حتى وان كان دون سقف الحرب الشاملة. كما ان التقديرات تشير الى ان الاسقاطات الاقتصادية والمالية وانعكاسها على مستوى المعيشة لم تبلغ مداها بعد، بل ان معظم التنبؤات سلبية بما فيها من قبل شركات التصنيف الائتماني ومن بنك اسرائيل. كما انها تأتي ضمن وضعية المجهول واللا-يقين بصدد القادم، اذ لا يوجد اي تصور اسرائيلي مستقبلي معتمد، بينما حالة التصدع الداخلي ومنحاه الصدامي تتعمق.


بعد عشرة اشهر من السابع من اكتوبر 2023 ومن الحرب، لا يزال الاسرائيليون يعيشون ازدواجة ذهنية الهزيمة وذهنية الانتقام، وهناك من يتساءل كيف ان ثلثي المجتمع الاسرائيلي يعارضون حكومتهم ولا يثقون بها، وفي المقابل يؤيدون  خطواتها الانتقامية التي قد ترتد عليهم، والمقصود سياسة الاغتيالات والتصفيات. كما يشير محللون وازنون الى المتغيرات في ثقافة الاستهلاك كمؤشر للاضطراب الداخلي والنفسي الجماعي، فمقابل ثقافة ارياد المطاعم والمقاهي والاماكن السياحية والترفيه والتي تكاد تنهار جميعها، يحدث ارتفاع بعدة اضعاف في استهلاك الطواريء على شاكلة المولدات الكهربائية والمواد الغذائية المعلبة والمياه للشرب. يرافق ذلك ارتفاع في الاسعار نتيجة سياسة الحكومة بينما تسعى الاخيرة الى إلقاء مسؤولية التضخم على القطاع الخاص ولتدخل في صراع معه. هذه المظاهر تنعكس في "معيار السعادة" المعمول به عالميا في الحقبة الاخيرة، ليصبح التراجع فيه وحالة اليأس المنتشرة نتيجة للحرب وغياب الافق، محفزا على تفكك العقد الاجتماعي الصهيوني وعلى الهجرة.


خطاب المنفى او الشتات ليس بجديد اسرائيليا بل ان عمره كعمر المشروع الصهيوني في فلسطين، كما انه بقي قائما في مواجهة خطاب "بوتقة الصهر" وتحويل كل يهودي قادم الى اسرائيلي وفقا للتعريف الصهيوني الجوهري.


بعد المنفى القسري الداخلي في اسرائيل ونزوح سكان بلدات النقب الغربي وغلاف غزة ونزوح مستدام لسكان المناطق الحدودية مع لبنان، باتت فكرة المنفى وليدة شعور عام مشتقة من الواقع المستجد وليست مجرد ترف حواري او ثقافي. بل ان هناك من يعتبر الصهيونية في نشأتها حالة ثقافية في مناقشة مسألة المنفى والشتات لتجد حلها في استيطان فلسطين وتهويدها، بينما الهجرة الحالية هي ثقافة نقيضة تماما.


رغم تقييد حرية الهجرة للخارج قانونيا واجرائيا بحجة التجنيد لقوات الاحتياط، او نظرا لشح خطوط الطيران من والى الخارج والتي تراجعت من نحو 130 شركة الى اقل من 30 وحاليا اٌل من عشرين شركة، وهذا ينعكس في ارتفاع حاد جدا يضاعف اسعار التذاكر عدة مرات، الا ان حركة الهجرة متواصلة. تميز الهجرة للخارج الفئات والشرائح الوسطى العلمانية والمتعلمة والمهنية في تفتيشها عن حلول فردانية تسمح لها القيام بذلك. وبالنسبة لها فقد بات والشتات يوفران الأمن والامان لليهود اكثر من الدولة اليهودية والمشروع الصهيوني.


يرى عوفري ايلاني في مقاله في هارتس 11/8/24 بأن "الصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين قد اتخذ منحى اليأس"، كما يتوقف عند شعور اليهود في إسرائيل اليوم بانعدام الأمان الوجودي، بمستوى لم يشعروا به منذ أجيال. بل ان "الدولة اليهودية" تسير على طريق المغامرة وتشعل النار في المنطقة برمتها، ولم تعد أجزاء كبيرة من المجتمع الدولي مستعدة لقبول الوضع الراهن. و"الحل الصهيوني نفسه أصبح موضع تساؤل". في حين ان المعارضة للحكومة الحالية لا تطرح اي مخرج او بارقة أمل لهؤلاء.


انتقل خطاب الشتات والهجرة الى الواجهة بعد ان كان لعقود من المحرمات، فيه انعكاس لتعمق القناعات لدى اوساط معينة بانهيار عقيدة الصهيونية القائمة على البيت القومي لليهود وماجأ ليهود العالم المطاردين باللا-سامية، وبأن المكان الوحيد الآمن لهم هو "ارض اسرائيل" حيث يكون الأمن والأمان والازدهار الفردي والجماعي.


شكلت مسألة النازحين الاسرائيليين من الشمال والجنوب على حد سواء، بمثابة تفكك في العقيدة وفي العقد الاجتماعي، وبت خطاب اتهام الدولة بخيانة مواطنيها (اليهود) متصدراً. ان هذا التفكك يجعل مسألة الهجرة اكثر شرعية وتقبلا، بالاضافة الى مستوى معيشة الاسرائيليين الذي يتيح للكثيرين القيام بذلك حماية لطموحاتهم وتقدمها العلمي والمهني بدلا من التضحية بأرواحهم في حرب اما غير مقتنعين بها او انها نتيجة اخفاق الدولة وخيانتها للعقد غير الموقع مع مواطنيها. صحيح ان هذا الحديث بدأ قبل الحرب وفي خضم الصراع على "الانقلاب الدستوري" الا ان تسارعه غير السمبوق كان نتيجة الحرب وخلالها، وصحيح ان هناك منحى عالمي في الاجيال الشابة غير معنية بالتضحية بحياتها، الا ان ما يحصل اسرائيليا فاق كل التوقعات.


مقابل حركة الهجرة اليهودية الواسعة هناك حركة هجرة متصاعدة او مغادرة البلاد بشكل مستدام، بين الشباب الفلسطيني من فلسطينيي48 مواطني اسرائيل، وذلك سعيا لضمان الأمان والقدرة على التحصيل العلمي والتقدم مهنيا وبحثيا. وهي ايضا منشرة في اوساط الشرائح والطبقات المقتدرة اقتصاديا. وهي موضوع بحد ذاته سوف نتطرق له قريبا. 
للخلاصة:


•    منذ 7 اكتوبر تفقد دولة اسرائيل ضرورتها امام اوساط متزايدة من مجتمعها، والذين يفتشون عن خلاص فردي وعن هوية جديدة خارج مفهوم الدولة والصهيونية حتى وان كانت هذه الاوساط صهيونية في معظمها.


•    حركة الهجرة اليهودية من اسرائيل قائمة على تفكك العقد الاجتماعي الصهيوني وعقيدة "بوتقة الصهر"، ترافقها هجرة الأدمغة والمهارات ورأس المال.
•    من المتوقع ان تكون لهذه الهجرة اسقاطات على تحول اسرائيل الى دولة غير قابلة للهجرة اليهودية اليها بوصفها مكانا غير آمن وموصوم دوليا بالابادة والاحتلال وجرائم الحرب المتورطة بها وتخضع للعقوبات والمقاطعة.


•    من المحتمل في حال اتساع نطاق هذه الهجرة ان تدفع اسرائيل أكثر نحو المسيانية والغيبية الدينية الصهيونية وذهنية الحرب الدائمة دون اي حل، وهو الحاصل حاليا وقد يتسارع ما لم يكن تدخلا دوليا فاعلا لاحقاق حقوق الشعب الفسطيني.


(الباحث في مركز التقدم العربي للسياسات ومقره لندن)

تابعوا أخبار الأردن على
تصميم و تطوير